بسم الله الرحمان الرحيم
في البداية أستهل كلامي بالصلاة و السلام على رسول الله صل الله عليه وسلم و على آله و صحبه و أترحم على شهداء الثورات العربية، و أدعو ملك الملك جل جلاله أن يسلم إخوتنا في مصر و سوريا و اليمن من كل مكروه و يرد كيد من كاد لهم و أراد بهم السوء في نحره و أن يرد فلسطين و الشيشان و الأحواز و كل أراضي المسلمين المغتصبة ردًا جميلاً إنه على كل شيء قدير.
أردت اليوم أن أتحدث عن موضوع الساعة و هو ما يصيب مجتمعات الثورة العربية من شلل و ما اصطلح على تسميته بـ"الفوضى". هذا الوضع الجديد الذي ما عهدته المجتمعات العربية على الأقل في تاريخها المعاصر و منذ تأسس الدولة الإسلامية. فالمجتمعات العربية لطالما اتصفت بالخمول سواء السياسي أو الإجتماعي، خاصة مع يد الحديد التي كانت جاثمة على السلطة و التي كانت تكتم كل محاولات الإنتفاض. فماهو سر هذا النشاط الفجئي لمجتمعات اعتقد كل العالم أنها قضت نحبها منذ عقود؟
إن الزخم الذي عرفته المجتمعات العربية هو نتيجة حتمية لكبت تواصل سنوات و سنوات. هذا الكبت الذي انطلق منذ الحملات الإستعمارية أي منذ أواخر سنوات حكم الدولة العثمانية ليستمر إلى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية. مدة طويلة و جلد كبير من مجتمعات لطالما تاقت إلى الأفضل و ذلك منذ أن تركت المرتبة الأولى عقب الثورة الصناعية الغربية. لكن المجتمع العربي لم يكن أول المجتمعات التي عاشت التجربة، فبما أننا ذكرنا الثورة الصناعية الغربية، دعونا نعود إلى ما قبلها.
في التاريخ العربي، ما يمكن أن نسميه ثورة بأتم ما للكلمة من معنى هو تأسيس الدولة الإسلامية. حيث قام رسول الله صل الله عليه و سلم بجمع نواة أولى في يثرب (المدينة المنورة) و هما قبيلتا الأوس و الخزرج. تلك النواة ما كانت لتعلم أنه في خلال 10 سنوات ستتحول إلى دولة عظمى تخضع الدولة الرومانية و الفارسية. فتمكنت القبائل الرحل المتناحرة من تكوين الحضارة التي حكمت من المحيط الأطلسي غربا إلى الهند شرقا بقيادة الخلفاء و هم علماء دين يحكمون الناس بما أنزل الله. ثورة تأسيس الدولة الإسلامية تبعتها ثورة علمية و ثقافية و أدبية لم يشهد لها العالم مثيلا. خاصة مع الفسحة الكبيرة التي يقدمها دين الإسلام للعلم و الأدب، إضافة إلى احتكاك الحضارة العربية الإسلامية بحضارات أخرى. مما مكن من توليف مزيج ثقافي و علمي نادر. و قد كان السقوط المفاجئ للدولة الإسلامية عقب إخلالات من الحكام أنفسهم بتعاليم الإسلام.
عكست الآية عند المجتمعات الغربية. كانت أوروبا في العصور الوسطى تعيش عصورها المظلمة، فعرفت قرابة 5 قرون من الإنحطاط الفكري و الإقتصادي و الإجتماعي. و كان التدهور الذي شهدته أوروبا ناتجا عن تسلط الكنيسة و فساد الرهبان الذين استباحوا كل مقدرات المجتمعات الغربية. فكانت الثورة على الملوكية و على الكنيسة، ليبرز اليوم ما يسمى بالفكر الحداثي العلماني الذي يفصل الدين عن الدولة. و كانت الثورة الأوروبية أولا اجتماعية و على رجال الدين الذين عاثوا فسادًا، لتتبعها لاحقا ثورة فكرية قادها فلاسفة التنوير، و لتصل إلى ثورة علمية صناعية اقترنت بالإكتشافات الكبرى للأمريكيتين و أستراليا. و اكتملت بذلك مقومات الثورة التي لم تشهد بعدها ثورات أخرى نجاحا مماثلة على الأقل إلى يومنا هذا.
تقول الحكمة المشهور "التاريخ دائمًا يعيد نفسه"، كما رأينا سابقا فالثورة في المجتمع العربي أقامها الإسلام من خلال تأسيسه للدولة الإسلامية و الخروج من الحيز القبلي المتناحر. الأمر معكوس في الغرب، حيث أن الثورة قامت ضد رجال الدين و الكنيسة. و المقوم الذي ساهم في هذا التعاكس بين كل من ثورة تأسيس الدولة الإسلامية و الثورة الغربية هو الحيز الذي يقدمه الدين للعلم و الثقافة، في الإسلام كان هذا الحيز موجودًا عكس الكنيسة التي كبتت ذلك الحيز و نذكر من الأحداث التي تظهر هذا الكبت، إعدام "غاليليو" لمخالفته الكنيسة في أن الأرض مسطحة وقوله بكروية الأرض. بينما لا يذكر المؤرخون حادثة مشابهة لعالم مسلم قتل لفكرة أو اكتشاف. إضافة إلى الحيز فإن فساد رجال الكنيسة و صلاح الخلفاء الذين اشتهروا بالعدل و الحكمة هو العامل الثاني في تعاكس الثورتين الإسلامية و الغربية.
لا بناء دون فوضى تسبق النظام، حكمة وجب الإقرار بها من خلال ما سبق من تجارب تاريخية. أما الفوضى التي سبقت ثورة تأسيس الدولة الإسلامية، فهي الحياة القبلية التي عادت ما تعرف بقسوته و دائما ما تشهد تناحرًا. فالجاهلية كما عرفها الإسلامية كانت فعلا حياة جهل و ظلام، فكانت الأعراف القبلية تحكم، كما لو كانت غابة يسود فيها القوي الضعيف. و أما الفوضى التي سبقت الثورة الغربية، فهي ما يعرف اليوم بالعصور المظلمة، التي لم تختلف كثيرا على المستوى الإجتماعي و الأخلاقي عن حياة الجاهلية. فقد تميزت أيضا بالقبلية و الصراعات و الحياة البدائية التي تنخرم فيها الطبقات الإجتماعية و تتوسع فيها الفوارق الإجتماعية.
سبيل الخلاص، يا ترى ماذا يكون؟ المهم الآن أن مستقبلنا سيكون إن شاء الله أفضل من ماضينا و حتما أفضل من حاضرنا. ربما تكون مرحلة الفوضى طويلة بالنسبة لحياة الفرد، لكنها بمقياس الحضارات و الأمم لا شيء. هذا بناء على تجاربنا العربية السابقة. و عندما نمعن النظر في تجاربنا السابقة، فإن الحل البديهي هو عودة علماء الدين لممارسة دورهم المحوري في المجتمع، بعيدًا عن التزمت و الإنكماش. رد الإعتبار للمؤسسة الدينية سيكون سبيل النجاة الذي يعيد بناء الدولة التي أقامها خاتم الأنبياء و المرسلين. الدولة التي تمنح للأديب و العالم حيز الإبداع مع الإلتزام بضوابط الشرع التي تستوعب كل ما فيه خير للبشرية.
الطريق المسدود هو دائما طريق المقلدين، فكثير لا يميز خصوصيات المجتمعات العربية عن نظيراتها الغربية. فربما يرى البعض أن الثورة يجب أن تكون ثورة على رجال الدين المسلمين، لا لشيء ارتكبه علماء الإسلام بل فقط لتقليدهم الأعمى للغرب و عدم تمييزهم المسجد عن الكنيسة. هذا الطريق الذي وجب الحذر منه فإضافة إلى أنه يعتبر إجهاضا للثورات العربية فهو سيطيل فترة الفوضى التي تتبع الثورات مما سيؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها حضاريا. و كم من حضارة سبقتنا اندثرت.
بنظرة تفاؤل ننظر إلى الغد الذي نتوسم فيه الخير، و ما أمكنني ختم كلامي إلا بتنويه في شكل لفت نظر للمتشبعين بالفكر الغربي: عوض رفعكم لشعار "فصل الدين عن الدولة" وجب عليكم أن تفكروا في "فصل المسجد عن الكنيسة". وما قصدته هنا هو العودة إلى التاريخ و عدم إسقاط قوالب غربية جاهزة على مجتمعاتنا العربية التي تختلف كل الإختلاف عن الغرب في خصوصياتها و تاريخها. فإن كان التاريخ يرحم لرحم من سبقكم.
بقلم: فاروق الإسلام
بقلم: فاروق الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق